قراءة في مقال الجريمة والعرف في المجتمعات الاولية Malinovski
يحرص كل مجتمع على حفظ الأمن والاستقرار فيه، وذلك بوضع مجموعة من القوانين والمعايير والأعراف والتشريعات التي تحدد ما هوالصواب وما هوالخطأ، وما هومسموح به وما هومحظور. ويخرج بعض الأفراد من وقت لأخر عن العرف والمعايير السائدة في المجتمع مما يعرضهم للعقاب من طرف المجتمع . إن هذه المسألة ليست خاصة بالمجتمعات المتطورة والحديثة فحسب، وإنما هي قديمة ومتجذرة في ثقافة بعض المجتمعات القديمة التي كانت تضع أحكام وتشريعات منبثقة من أعرافها وتقاليدها المحلية بغية تنظيم العلاقات بين أفرادها . في هذا السياق نستحضر نص برونسيلاف مالينوفيسكيBronislaw Malinoswski الذي عالج أحد أهم المواضيع التي تندرج في إطار الأنثروبولوجيا القانونية ويتعلق الأمر ب " الجريمة والعرف في المجتمعات الأولية "، حيث اتخذ مجتمع "التروبرياند" الذي ينتمي إلى تراب غينيا الجديدة موضوعا لدراسته هذه .
استهل مالينوفيسكي هذا النص بالتأكيد على أن الأنثروبولوجيا تشكل لدى البعض دراسة مرادفة فقط للبدائيين والمتوحشين، وبالتالي غير مرحب بها لكن في نظره تعتبر الدراسات الأنثروبولوجية مهمة لكونها تساهم في تعميق المعرفة حول الطبيعة البشرية، وتسمح كذلك ببروز تفسيرات عملية مباشرة، ويشير صاحب النص كذلك أن الأنثروبولوجيا اهتمت هي الأخرى بالأحكام والتشريعات وطريقة إدارتها في المجتمعات البدائية، واتضح ذلك في كثير من الدراسات التي أنجزها العديد من الأنثروبولوجيون وعلماء الاجتماع . يتناول مالينوفيسكي مسألة الجريمة والعقاب في المجتمع التروبرياندي في جزئين أساسين :
في الجزء الأول من هذا النص المعنون ب " القانون والنظام في المجتمعات البدائية" يسلط فيه مالينوفسكي الضوء على مجموعة من الخصائص المتعلقة بالبنية الاقتصادية والوظائف الاجتماعية وما يلازمها من التزامات متعلقة بقبيلة الميلانيزي التابعة لمجتمع التروبرياندي . بالإضافة إلى ذلك، يتناول مالينوفسكي مجموعة من القضايا المرتبطة بالهياكل والأنظمة والتشريعات المستمدة من الأعراف والتقاليد القبيلة التي تحكم معظم العلاقات بين أفراد القبيلة، والتي يتم أيضا التوافق عليها من طرف أفراد هذا المجتمع لتنظيم التعامل بينهم، وكذلك من أجل وضع حد لمختلف الانتهاكات والممارسات التي من شأنها أن تمس وتعرقل الحياة القبلية، وبالتالي فإن هذه الأحكام والقوانين تفرض على أفراد هذا المجتمع احترام قواعد السلوك في إطار التفاعلات القائمة بينهم، وتظل الوظيفة الأساسية للقانون حسب مالينوفيسكي هي كبح بعض الميولات الطبيعية، من أجل السيطرة عليها، وإجبار أفراد المجتمع على إتباع سلوك لا يوجد لديه شيء مرتبط بالعفوية، وإنما هوسلوك مقيد . بالإضافة إلى ذلك، تتمثل مهمة القوانين في ضمان التعاون القائم على التنازلات والتضحيات المتبادلة لغرض مشترك . ومن هنا، فإن أفراد منطقة الميلانيزي لديهم احترام عميق لعادات وتقاليد قبيلتهم، إلى جانب ذلك هناك عقوبات يتم سنها لمعاقبة المخالف لحفظ وحماية الحياة والملكية والشرف الشخصي، وكرامة كل واحد، وكذا جميع المؤسسات التي تلعب دورا حيويا في الدستور القبلي، وتمثل هذه العقوبات في نظر مالينوفسكي بمثابة قانون جنائي .
يتميز المجتمع الميلانيزي في نظر مالينوفسكي بطابعه الإلزامي من خلال تسلسل الإلتزامات القانونية، والتي تشكل شبكة من الخدمات المتبادلة، ونظام قائم على مبدأ " العطاء "، وتبادل الخدمات التي تمتد على مدى فترة طويلة وتغطي جميع أنواع المصالح والأنشطة، في هذا السياق يعتبر مالينوفيسكي الميلانيزيون طيعون للقانون والعرف المتعارف عليه سويا داخل مجتمعهم .
في حين يعالج الجزء الثاني من النص مسألة " الجريمة والعقاب في المجتمعات البدائية"، حيث يتناول فيه مالينوفسكي عبر محاوره الإنتهاكات القانونية التي تسفر عن الجريمة في المجتمعات البدائية، وما يقابل ذلك من عقوبات تستدعي الحاجة إلى الحفاظ على النظام . فالأنثروبولوجيا القانونية في نظر مالينوفيسكي لا تبحث فقط عن العنصر اللاذع والدرامي في الأحداث، وإنما تكتشف بعض الميزات غير المتوقعة والمدهشة للتشريع البدائي، في هذا السياق تعامل مالينوفيسكي مع وقائع التشريع الأصلي لمجتمع التروبرياندي، واعتبر أن هذا المجتمع متطور للغاية، ويحكم الجميع وفق قواعد قانونية تحدد الحياة الاجتماعية، وهي قوانين بعيدة عن أن تكون جامدة أومطلقة أومفروضة بإسم الإله، ويتم الحفاظ عليها من قبل قوى اجتماعية، تعتبر في نظره عقلانية وضرورية، ومرنة وقابلة للتكيف .
يرى مالينوفسكي من جهة أخرى، أن العلاقات الاجتماعية بالمجتمع السالف الذكر تحكمها عدد من المبادئ القانونية، أهم هذه المبادئ تتمثل في قانون الأم، الذي ينص على أن الدستور المادي والمعنوي للطفل، تحدده روابط القرابة التي تربطه بوالدته هي وحدها، ويحكم هذا المبدأ الخلافة في المرتبة والسلطة والكرامة والحقوق الاقتصادية، إلى جانب هذا التشريع هناك نظام أخر يتعلق بتشريع الزواج، الذي يحدد وضع الزوجة والزوج، ويمنح هذا النظام للأب سلطة جزئية والوصاية على حق المرأة والطفل، كما أن هناك تشريعات أخرى تحظر الإتصال الجنسي الخارج عن إطار الزواج .
من خلال الإنغماس الميداني الذي قام به مالينوفيسكي في تروبيرياند اكتشف أن السحر يمثل وسيلة للإكراه، ويتم اللجوء إلى الإنتحار ككفارة عن الذنب وتحدي في نفس الوقت، ويدعم السحر في نظر صاحب النص المصالح الخاصة التي تشمل الثروة والقوة والنفوذ، إنه يشكل تبعا لذلك شكلا من أشكال الإجراءات الجنائية، أما الإنتحار فإنه يتخذ شكلين حسب صاحب النص : إما عن طريق القفز من أعلى شجرة عالية الارتفاع أوتجرع جرعات السم المستخلص من أحد النباتات السامة .
يرى مالينوفسكي أن هناك صراعات بين الأنظمة القانونية لمجتمع التروبرياند خاصة الصراع بين قانون الأمومة الذي يشكل المبدأ الأساسي للتشريع، لكن مع ذلك هناك حسب صاحب النص عوامل تساهم في خلق التماسك الاجتماعي قي القبيلة، من أهم هذه العوامل تضامن العشائر، والاحتفالات المرتبطة بالطوطم .
نستنتج أخيرا، أن مالينوفيسكي وضع أصبع اهتمامه على موضوع مهم يتعلق بالجريمة في المجتمعات البدائية، وكيف يواجهها هذا الأخير عبر ترسانته القانونية المستمدة أساسا من الأعراف المحلية، ومن هنا يتبين أن الجريمة تشكل ظاهرة اجتماعية ممتدة في أي مجتمع كيفما كانت بنياته وتشكيلاته الاجتماعية، إذ أنها ظاهرة تتصل ببناء المجتمع وبطبيعة حياته الاجتماعية .
رغم أن المجتمع الميلانيزي هومجتمع بدائي مازال يتبع نظام معين من المعايير وقيم لتنظيم الحياة الاجتماعية بين أفراده، إلا أنه يعرف اضطرابا وضغوطات في هذا النظام، يؤدي به إلى انطلاق طموحات الأفراد دون مراقبة لتصل إلى الحد الذي يتخذ معه إشباعها، وهنا تفقد القواعد التقليدية قوتها في ضبط السلوك، وتحدث عندها حالة من اللانظام أواللامعيارية، حيث يتبع الشخص شهواته ورغباته دون الإهتمام بالضوابط الاجتماعية، ومن تم يقوم بالسلوك المنحرف أوارتكاب الجريمة .وردا على ذلك يضع المجتمع الميلانيزي قواعد وتشريعات موضوعة لمعاقبة كل من سولت له نفسه تجاوز الأعراف والقيم والمعايير المعمول بها .
Commentaires
Enregistrer un commentaire